في تقرير ديبلوماسي حول مسار العلاقة الملتبسة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الروسي، وخصوصاً تلك القائمة بين الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين، أنّ في قمة آلاسكا التي عُقدت بين الأخيرين في 15 آب هذا العام في قاعدة إلمندورف ـ ريشاردسون المشتركة في انكوريج، كان مقدراً أن تسحب واشنطن يدها من الملف الأوكراني وتوقف مساعدتها لكييف واوروبا، وأن تخلي الساحة لموسكو كي تستولي على المناطق ذات الأصول واللغة الروسية، والدخول في مفاوضات مع دول منظومة حلف «وارسو» الذي أنشأه الاتحاد السوفياتي وانتهى بسقوطهما معاً، بعد التحولات الكبرى وانهيار جدار برلين.
على أنّ هدف موسكو من المفاوضات مع الدول الاوروبية الشرقية هو دفعها إلى مغادرة «الناتو»، لأنّ ذلك يشكّل خطراً مباشراً على أمنها القومي، خصوصاً أنّ الولايات المتحدة الأميركية ستخرج من هذا الحلف في نهاية العام 2027، ولن يعود له بالتالي أي حاجة أو جدوى. وفي التقرير، إنّ قبول واشنطن بشرط روسيا كان مربوطاً بطلب رئيس، وهو سحب موسكو دعمها لفنزويلا وكوبا، وعدم الوقوف في وجه أي عمل عسكري يأمر به الرئيس دونالد ترامب ضدّ هاتين الدولتين اللتين يعتبرهما، ولا سيما منهما الأولى، ذات إمكانات إقتصادية واعدة. بترول فنزويلا ومعادنها، وثرواتها الجوفية والطيبعية، طالما فتحت شهية الولايات المتحدة التي لم تتوان يوماً عن تدبير الإنقلابات وإثارة القلاقل في هذه الدولة. وذلك خشية انهيار أميركا من داخل. ومن أجل ذلك أعادت واشنطن مبدأ «مونرو» المعلن عنه في العام 1823 إلى الضوء، مع إدخال تعديلات عليه توائم بين النزعة الإنعزالية (ISOLATIONISTE) المعبّر عنها في هذا المبدأ، وبين المصالح الاستراتيجية في الفضاء الأميركي الأكبر، لتبرّر أي هيمنة محتملة على أميركا اللاتينية، ولا سيما منها البلدان التي تعني لها كثيراً سواء على صعيد الهجرة غير الشرعية (المكسيك- كوبا) أو على الصعيد الاقتصادي( فنزويلا- كوبا). ويتوقف التقرير عند نقطة مهمّة، هي أنّ الكرملين تعاطى ايجاباً مع طلب ترامب، وكانت كل المعلومات تصبّ في توقّع عمل واسع، معقّد، لإسقاط نظام مادورو وإحلال نظام موالٍ لواشنطن، وعقد اتفاقات دفاعية أمنية - إقتصادية - نفطية، ذلك أنّ هذا السبيل هو الأسرع وربما الأفضل لإخراج واشنطن من مآزقها المالية والاقتصادية. وإذا رُبط هذا التوجّه بالخطط الموضوعة لقطاع غزة على المستويين الاقتصادي والسياحي نظراً لموقعه وغناه بالبترول، ولجنوب لبنان لجهة إقامة منطقة إقتصادية حرّة، يُراد لها أن تكون الأكثر حداثة على الحزام الشمالي لشرق الأبيض المتوسط، وتشديد الرقابة على الترانزيت على خط بيروت - دمشق، فالداخل العربي، لمتابعة أعمال البحث والدرس في ملف لم يظهر إلى العلن بعد، وهو إمكان اكتشاف آبار بترول على الحدود الشرقية - الشمالية بين لبنان وسوريا. ومن دون أن يغفل التقرير موضوع المصالح الاقتصادية بين الولايات المتحدة وسوريا، يمكن انطلاقاً من هذه «البانوراما» فهم أبعاد التوجّهات الأميركية الاستراتيجية في العالم. لكن على ما يورد التقرير، فإنّ الدول الاوروبية الغربية وفي مقدمها المانيا، فرنسا، بريطانيا، عارضت هذا التوجّه الذي يسوّق له الرئيس الأميركي، واستطاعت أن تُحدث إرباكاً وخرقاً، ما حمل واشنطن على تجميد مفاوضاتها في شأن اوكرانيا.
ويتحدث التقرير عن معلومات في حاجة إلى التدقيق، أنّ موسكو عادت إلى كراكاس بزخم أقوى، وباشرت تطوير سلاح الجو الفنزويلي، وإدخال أسلحة نوعية جديدة، وهيكلة البنية العسكرية بما يتلاءم مع طبيعة التحدّيات القائمة والتي تتهدّد نظام هذه الدولة.
وتشير التقارير إلى مجموعتين تتنازعان القرار داخل النخب السياسية الأميركية:
ـ الأولى، تدعو إلى تقاسم النفوذ وإلى عالم متعدد القطب، ويُطلق عليها توصيف مجموعة الـ«REALESTIC» ومن أبرز وجوهها نائب الرئيس الأميركي J.D. VANCE.
ـ الثانية، تتألف من القوميين الإنعزاليين الذين يرون الحل في انسحاب أميركا من كل العالم، على أن تستأثر بالقارة الأميركية. وإنّ انكفاءها إلى الداخل هو الأسلم لها. ولو اضطرها الأمر إلى التحرك ضدّ الأنظمة المعادية لها في أميركا اللاتينية اياً تكن الكلفة. وقد أيّد ترامب هذه المجموعة - عندما سوّقت للوحدة مع كندا - وهي دولة أميركية شمالية. وهذا يعني أنّ عقيدة «مونرو» المطورة لا تزال ماثلة بقوة لدى صانعي القرار في الدولة الأعظم.
مما تقدّم، فإنّ هذا الأمر يقود إلى أنّ السياسة الأميركية في الشرق الأوسط تحكمها الاعتبارات آلاتية:
أ- المصالح الاقتصادية ذات البعد الاستراتيجي مع شراكات إقليمية وعربية، لخلق قاعدة استقرار جيو- سياسي يمكن واشنطن من ضمان تدفق مصالحها.
ب- جعل إسرائيل الشرطي الأولى، والقوة العسكرية الأكثر اقتداراً في المنطقة. أي «الهراوة» الغليظة التي بها تلوّح وتضرب.
ج- الحفاظ على المجموعات الإتنية والطوائفية على نحو لا يمكنها من حسم خططها الانفصالية، ولكنه يمكنها من إبراز خصوصياتها وحمايتها، ولو في الحدّ الأدنى. وإذا نجحت واشنطن في ما تخطط له وما تسعى اليه، ستبدأ بالانسحاب التدريجي، بعد أن تكون قد إطمأنت إلى أذرعها الإقليمية. ولكن ذلك يطرح أسئلة متعددة، ومنها:
- أين دور روسيا مما يُخطط، وهي لها وجود وازن في شمال سوريا، كما في السودان، وعدد من البلدان الإفريقية المتصلة بشكل أو بآخر بالعالم العربي؟
- ماذا سيكون عليه موقف الصين وهي القوة الاقتصادية العالمية الهائلة، والمتنامية وذات الطموح إلى أن يكون لها موطئ قدم في منطقة الشرق الاوسط؟
- ماذا سيكون عليه موقف إيران من أي ترتيب جيو- سياسي يُعدّ للمنطقة؟ وهل تكون طرفاً فيه، ورأس حربة في مواجهته. أم أنّ حرباً وشيكة ستستهدفها على غرار ما ينتظر مادورو - حال تخلّت عنه موسكو، لإحلال نظام «شاهنشاهي» جديد بثوب «جمهوري» يخلف الدولة الاسلامية؟
- ماذا عن الموقف التركي الذي له حساباته الاستراتيجية إقليمياً، والذي يتوجس من الأطماع الإسرائيلية، ولا يثق بتل أبيب؟
- هناك الموقف العربي، وخصوصاً موقف مصر والسعودية، وهو حذر من أي طرح سياسي - أمني في المنطقة تكون الريادة فيه للدولة العبرية.
إنّ لبنان في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ العالم والمنطقة «يأكل العصي ويعدّها»، ولا يجد سبيلاً إلى الخروج من محنته بسبب الخلافات الداخلية العميقة التي تمزقه ولا ترحمه، واستمرار سياسة المكاسرة والتخندق الولاّدة لتوترات لن ترسو على برّ، ولن تؤدي إلى حلول بل إلى أزمات متناسلة.